سورة المزمل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المزمل)


        


{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)}
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: أجمعوا على أن المراد بالمزمل النبي عليه السلام، وأصله المتزمل بالتاء وهو الذي تزمل بثيابه أي تلفف بها، فأدغم التاء في الزاي، ونحوه المدثر في المتدثر، واختلفوا لم تزمل بثوبه؟ على وجوه:
أحدها: قال ابن عباس: أول ما جاءه جبريل عليه السلام خافه وظن أن به مساً من الجن، فرجع من الجبل مرتعداً وقال: زملوني، فبينا هو كذلك إذ جاء جبريل وناداه وقال: يا أيها المزمل.
وثانيها: قال الكلبي: إنما تزمل النبي عليه السلام بثيابه للتهيء للصلاة وهو اختيار الفراء.
وثالثها: أنه عليه السلام كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة، وقيل: يا أيها النائم المتزمل بثوبه قم واشتغل بالعبودية.
ورابعها: أنه كان متزملاً في مرط لخديجة مستأنساً بها فقيل له: {يأَيُّهَا المزمل * قُمِ اليل} كأنه قيل: اترك نصيب النفس واشتغل بالعبودية.
وخامسها: قال عكرمة: يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله والزمل الحمل، وازدمله احتمله.
المسألة الثانية: قرأ عكرمة {المزمل} و{المدثر} [المدثر: 1] بتخفيف الزاي والدال وتشديد الميم والثاء على أنه اسم فاعل أو مفعول، فإن كان على اسم الفاعل كان المفعول محذوفاً والتقدير يا أيها المزمل نفسه والمدثر نفسه وحذف المفعول في مثل هذا المقام فصيح قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيء} [النمل: 23] أي أوتيت من كل شيء شيئاً، وإن كان على أنه اسم المفعول كان ذلك لأنه زمل نفسه أو زمله غيره، وقرئ (يا أيها المتزمل) على الأصل.


{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)}
وقوله تعالى: {قُمِ اليل} فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله لقوله: {قُمِ اليل} وظاهر الأمر للوجوب ثم نسخ، واختلفوا في سبب النسخ على وجوه أولها: أنه كان فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بها.
وثانيها: أنه تعالى لما قال: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} فكان الرجل لا يدري كم صلى وكم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وشق عليهم ذلك حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر هذه السورة: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وذلك في صدر الإسلام، ثم قال ابن عباس: وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة، وقال في رواية أخرى: إن إيجاب هذا كان بمكة ونسخه كان بالمدينة، ثم نسخ هذا القدر أيضاً بالصلوات الخمس، والفرق بين هذا القول وبين القول الأول أن في هذا القول نسخ وجوب التهجد بقوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} [المزمل: 20] ثم نسخ هذا بإيجاب الصلوات، وفي القول الأول نسخ إيجاب التهجد بإيجاب الصلوات الخمس ابتداء، وقال بعض العلماء: التهجد ما كان واجباً قط، والدليل عليه وجوه أولها: قوله: {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] فبين أن التهجد نافلة له لا فرض، وأجاب ابن عباس عنه بأن المعنى زيادة وجوب عليك.
وثانيها: أن التهجد لو كان واجباً على الرسول لوجب على أمته لقوله: {واتبعوه} [الأعراف: 158] وورود النسخ على خلاف الأصل.
وثالثها: استدل بعضهم على عدم الوجوب بأنه تعالى قال: {نّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} ففوض ذلك إلى رأي المكلف وما كان كذلك لا يكون واجباً وهذا ضعيف لأنه لا يبعد في العقل أن يقول: أوجبت عليك قيام الليل فأما تقديره بالقلة والكثرة فذاك مفوض إلى رأيك، ثم إن القائلين بعدم الوجوب أجابوا عن التمسك بقوله: {قُمِ اليل} وقالوا ظاهر الأمر يفيد الندب، لأنا رأينا أوامر الله تعالى تارة تفيد الندب وتارة تفيد الإيجاب، فلابد من جعلها مفيدة للقدر المشترك بين الصورتين دفعاً للاشتراك والمجاز، وما ذاك إلا ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، وأما جواز الترك فإنه ثابت بمقتضى الأصل، فلما حصل الرجحان بمقتضى الأمر وحصل جواز الترك بمقتضى الأصل كان ذلك هو المندوب، والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ أبو السمال {قُمِ اليل} بفتح الميم وغيره بضم الميم، قال أبو الفتح بن جني: الغرض من هذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين، فأي الحركات تحرك فقد حصل الغرض وحكى قطرب عنهم: {قم الليل}، و{قل الحق} [الكهف: 29] برفع الميم واللام وبع الثوب ثم قال: من كسر فعلى أصل الباب ومن ضم أتبع ومن فتح فقد مال إلى خفة الفتح.
قوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}.
اعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان الأول: أن المراد بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} الثلث، والدليل عليه قوله تعالى في آخر هذه السورة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] فهذه الآية دلت على أن أكثر المقادير الواجبة الثلثان، فهذا يدل على أن نوم الثلث جائز، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد في قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} هو الثلث، فإذاً قوله: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} معناه قم ثلثي الليل ثم قال: {نّصْفَهُ} والمعنى أو قم نصفه، كما تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي جالس ذا أو ذا أيهما شئت، فتحذف واو العطف فتقدير الآية: قم الثلثين أو قم النصف أو انقص من النصف أو زد عليه، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة، ويكون الثلث أقصى النقصان، فيكون الواجب هو الثلث، والزائد عليه يكون مندوباً، فإن قيل: فعلى هذا التأويل يلزمكم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الواجب، لأنه تعالى قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} فمن قرأ نصفه وثلثه بالخفض كان المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين، وأقل من النصف، وأقل من الثلث، فإذا كان الثلث واجباً كان عليه السلام تاركاً للواجب، قلنا: إنهم كانوا يقدرون الثلث بالاجتهاد، فربما أخطأوا في ذلك الاجتهاد ونقصوا منه شيئاً قليلاً فيكون ذلك أدنى من ثلث الليل المعلوم بتحديد الأجزاء عند الله، ولذلك قال تعالى لهم: {عِلْمٍ أَلَّن تُحْصُوهُ} [المزمل: 20]، الوجه الثاني: أن يكون قوله: {نّصْفَهُ} تفسيراً لقوله: {قَلِيلاً} وهذا التفسير جائز لوجهين:
الأول: أن نصف الشيء قليل بالنسبة إلى كله والثاني: أن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن عهدة ذلك التكليف بيقين إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفاً وشيئاً، فيكون الباقي بعد ذلك أقل منه، وإذا ثبت هذا فنقول: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} معناه قم الليل إلا نصفه، فيكون الحاصل: قم نصف الليل، ثم قال: {أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً} يعني أو انقص من هذا النصف نصفه حتى يبقى الربع، ثم قال: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} يعني أو زد على هذا النصف نصفه حتى يصير المجموع ثلاثة أرباعه، وحينئذ يرجع حاصل الآية إلى أنه تعالى خيره بين أن يقوم تمام النصف، وبين أن يقوم ربع الليل، وبين أن يقوم ثلاثة أرباعه، وعلى هذا التقدير يكون الواجب الذي لابد منه هو قيام الربع، والزائد عليه يكون من المندوبات والنوافل، وعلى هذا التأويل يزول الإشكال الذي ذكرتم بالكلية لأن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقم ثلثي الليل، ولا نصفه ولا ثلثه لأن الواجب لما كان هو الربع فقط لم يلزم من ترك قيام الثلث ترك شيء من الواجبات، فزال السؤال المذكور، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً} قال الزجاج: رتل القرآن ترتيلاً، بينه تبييناً، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن يتبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع، قال المبرد: أصله من قولهم: ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير، وقال الليث: الترتيل تنسيق الشيء، وثغر رتل، حسن التنضيد، ورتلت الكلام ترتيلاً، إذا تمهلت فيه وأحسنت تأليفه، وقوله تعالى: {تَرْتِيلاً} تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لابد منه للقارئ.
واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف، وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله، والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية، ومن ابتهج بشيء أحب ذكره، ومن أحب شيئاً لم يمر عليه بسرعة، فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة.


{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)}
ذكروا في تفسير الثقيل وجوهاً أحدها: وهو المختار عندي أن المراد من كونه ثقيلاً عظم قدره وجلالة خطره، وكل شيء نفس وعظم خطره، فهو ثقل وثقيل وثاقل، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء: {قَوْلاً ثَقِيلاً} يعني كلاماً عظيماً، ووجه النظم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال: إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً، فلابد وأن تسعى في صيرورة نفسك مستعدة لذلك القول العظيم، ولا يحصل ذلك الاستعداد إلا بصلاة الليل، فإن الإنسان في الليلة الظلماء إذا اشتغل بعبادة الله تعالى وأقبل على ذكره والثناء عليه، والتضرع بين يديه، ولم يكن هناك شيء من الشواغل الحسية والعوائق الجسمانية استعدت النفس هنالك لإشراق جلال الله فيها، وتهيأت للتجرد التام، والانكشاف الأعظم بحسب الطاقة البشرية، فلما كان لصلاة الليل أثر في صيرورة النفس مستعدة لهذا المعنى لا جرم قال: إني إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً، فصير نفسك مستعدة لقبول ذلك المعنى، وتمام هذا المعنى ما قال عليه الصلاة والسلام: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها».
وثانيها: قالوا: المراد بالقول الثقيل القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين عامة، وعلى رسول الله خاصة، لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته، وحاصله أن ثقله راجع إلى ثقل العمل به، فإنه لا معنى للتكليف إلا إلزام ما في فعله كلفة ومشقة.
وثالثها: روى عن الحسن: أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة، وهو إشارة إلى كثرة منافعه وكثرة الثواب في العمل به.
ورابعها: المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يثقل عند نزول الوحي إليه، روي أن الوحي نزل عليه وهو على ناقته فثقل عليها، حتى وضعت جرانها، فلم تستطع أن تتحرك، وعن ابن عباس: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد وجهه، وعن عائشة رضي الله عنها: رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليرفض عرقاً.
وخامسها: قال الفراء: {قَوْلاً ثَقِيلاً} أي ليس بالخفيف ولا بالسفساف، لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى.
وسادسها: قال الزجاج: معناه أنه قول متين في صحته وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رزين وهذا قول له وزن إذا كنت تستجيده وتعلم أنه وقع موقع الحكمة والبيان.
وسابعها: قال أبو علي الفارسي: إنه ثقيل على المنافقين، من حيث إنه يهتك أسرارهم، ومن حيث إنه يبطل أديانهم وأقوالهم.
وثامنها: أن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه ولا يزول، فجعل الثقيل كناية عن بقاء القرآن على وجه الدهر كما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9].
وتاسعها: أنه ثقيل بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء أقبلوا على البحث عن أحكامه، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه فوائد ما وصل إليها المتقدمون، فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله، فصار كالحمل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله.
وعاشرها: أنه ثقيل لكونه مشتملاً على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والفرق بين هذه الأقسام مما لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون، المحيطون بجميع العلوم العقلية والحكمية، فلما كان كذلك لا جرم كانت الإحاطة به ثقيلة على أكثر الخلق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5